الزائرة الفاتنة !!
مرت السنون وتزوجتُ رجلاً عشتُ معه سنين جميلة، أنجبت فيها ابنتي الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً، ففي كل عام تستقبل الأسرة مولودة وكنت خلالها أرقب في عيني زوجي رغبته الملحَّة في إنجاب ذكر يحمل اسمه، وكأن الاسم لابد أن يحمله آخر غيرك!!
تغير زوجي وبدأ يتعامل معي بأسلوب ينقصه الحب والاحترام عندما أنجبتُ ابنتي الرابعة، وكانت آية في الجمال! كبرت فكانت صورتها تحكي كل معاني البراءة والطهر..
في العام الرابع عشر لزواجنا حملت للمرة الثامنة وابنتي السابعة لم تبلغ شهرها الثالث بعد! وعصفت بي أمراضٌ كثيرة كان الضغط والسكر أبرزها عدا هشاشة العظام التي زارتني باكراً وعمري لم يتجاوز أربعاً وثلاثين سنة، وعدا عن كون رحلة الحمل هذه وهناً على وهن فقد تحولت لرحله عذاب نفسي وتهديد دائم من زوجي الذي ازداد جبروتاً وغلظة في التعامل معي ومع بناتي السبع على الرغم من أن الله قد أنعم عليه بنعمة الصحة والمال إلا أنه يضيّق الخناق علينا! وبرغم كوني امرأة عاملة وأصرف مرتبي كاملاً على بناتي وبيتي إلا أننا نوشك أن نُعَدّ من الفقراء!!
ثقُل الحمل في الأشهر الأخيرة وصاحبته الأمراض فسقطت بعض أسناني وأصابها التسوس من جراء نقص الكالسيوم الذي استهلكته خلال الحمل المتواصل لعدة سنوات، كما ضعف نظري كثيراً، وتحول لون شعري إلى اللون الرمادي كحياتي! بل هو أفتح منها قليلاً!! لم أعترض قط على ما وهبني الله من البنات، فقد كنت أمارس حياتي كأم وصديقة لبناتي! بل إنني كثيراً ما أحمد الله على ما وهبني من نعمة الإنجاب أولاً ثم ممارسة الأمومة ثانياً، وتبقى ثالثاً ورابعاً المتعة التي أجدها في الحديث معهن حين ينقلن لي أخبار المدرسة وأحاديث صديقاتهن ومداعباتهن لمعلماتهن فقد وهبهن الله خفة في الدم وجمالاً في الروح!
وما كنت لدينا حين نتحلق ونضع القهوة والحلا مساءً ونجتمع سوياً لا يقطع حديثنا إلا صراخ إحدى الصغيرات وقد أغلقت أختها دونها باباً أو تشاجرت معها بسبب لعبة!! وان كان الناس يؤلفون ويروون الطرف والنكت فنحن نعايشها يومياً!
تستطيع حينما ترى حياتنا أن تنعتها بالانبساط ولكنك أبداً لن تصفنا بالسعداء! فنحن وإن كنا (أنا والبنات) في حالة سرور إلا أنه ما أن يحضر (السيد) إلا وتجد البنات يتقافزن متفرقات هلعات فهو على الدوام عابس مكفهر متبرم ناقم.. عجباً.. كيف ينقم على نعمة؟!
اقترب موعد الولادة، وبدأ التوتر يظهر في أجواء الأسرة.. شعرت البنات بناقوس الخطر يدق في أركان بيتنا من جراء تهديد والدهنّ لي بالطلاق تارة وبالزواج من ثانية تارة أخرى، بل وتعدى الأمر إلى التهديد بالطرد من المنزل إن أنجبت بنتاً!! وعاشت البنات في قلقٍ ونقلن معاناتهن لصديقاتهن في المدرسة وامتد ذلك القلق لأسرهن إشفاقاً على وضعنا!!
وحين حلّت الامتحانات.. كنت في الأيام الأخيرة من الحمل و.. أخيراً وضعت..
وضعتها أنثى.. الثامنة، جميلة، بل فاتنة.. سليمة من العاهات.. وحين علم زوجي بذلك لم يتمالك نفسه فخرج من المستشفى غاضباً ساخطاً وترك بناته في مدارسهن ينتظرنه للعودة للمنزل بعد انتهاء الامتحان، وتركني أعانى آلام الوضع والحيرة..
وأخيراً عادت البنات بصحبة إحدى المعلمات، بينما أنا في المستشفى أرقب عودته لتسجيل الصغيرة وإثبات ولادتها حيث لا توجد معي أوراق رسمية! ورجع زوجي بعد يومين وأعادني إلى منزلي بعد إنهاء الإجراءات، وكان يشتم ويسب، وكنت أصبر وأحتسب!
عدت إلى منزلي فأورقت أغصان البنات واستأنفن المذاكرة فكلهن متفوقات دراسياً ولكن القلق أخذ يساورني على مستقبلهن، إلا أنني عدت إلى المنهج الرباني مؤمنة بالقضاء والقدر، والرضا به..
تستكمل السيدة الصابرة حديثها وتقول: (لم يكن وجود طفل صغير في المنزل شيئاً مستغرباً فنحن ما نكاد نودع السنة الأولى من حياته إلا ونستقبل طفلاً آخر! لم نصل بالطبع إلى تكوين فريق كفريق كرة القدم فلا زلنا بحاجة لمدافع أو أكثر.. أما المهاجم فمتواجد طوال الوقت يسجل أهدافاً موجعة على فريقه!! ومرت السنون وكبرت (سلوى) المسخوط عليها!!
فصارت تستقبل والدها.. ترفع شماغه عن رأسه.. تداعبه.. تقبَّل يده، ولكنه يقابل ذلك اللطف بجفاء وغلظة، وكثيراً ما يعنفها، ويتمتم
بكلماتٍ ساخطة ومكررة: (الله لا يكثركن عند الصديق)!! وإن كان من المعتاد أن يكون الأب الذي لديه بنات أكثر لطفاً وحناناً ممن لديه ذكور إلا أن هذا الأب لم يستشعر الأجر لمن يعيل ابنتين فكيف بثمان؟! ولم يستمتع قط بهذا الجو الأسري الآسر وبلطف بناته وحنانهن! ولم يُقدَّر كونه أباً ومسؤولاً عن أسرته حين أحال حياة الأسرة إلى قلقٍ وتوتر، عدا اضطهاد زوجته بالتهكم بلفظ (أم البنات) وكأنها وصمة عار!! ومع ذلك كنا نقنع أنفسنا بأن حياتنا ممتعة.. جميلة!!
وجود (سلوى) في منزلنا أضفى على حياتنا الهدوء النسبي والدعة، فقد كبرت البنات واستكملن دراستهن في تخصصات مختلفة.. أما (سلوى) ففي الصف الثالث الثانوي، وهي الصغرى حيث لم أنجب بعدها لأن زوجي كف عن المطالبة! بعد أن اعترته أمراض مختلفة فلم يعد يفكر بإنجاب المزيد! فضلاً عن أن صحتي لا تسعفني لمواصلة الإنجاب. ولم ينفذ زوجي تهديداته وانغمس في العمل التجاري وجمع الأموال!!
وقلّت حدته وأصبح هادئاً بعد أن تكالبت عليه الأسقام، وأصيب بمرض يستدعي نقل مادة من النخاع الشوكي حيث توقف عن الحركة تماماً، وكثرت مراجعاته للمستشفى فتقاعدتُ عن العمل لأصحبه عند كل مراجعة. واستدعى الأمر التبرع له من أحد أقاربه فذهبنا جميعاً للمستشفى لعمل اختبار لمعرفة مدى ملائمة السائل لجسمه..
وكانت.. (سلوى) هي التي أثبتت الاختبارات والتحاليل مطابقتها تماماً للمطلوب!! وخضعت لعملية نقل جزء من النخاع لإنقاذ والدها..
باقٍ من الحزن أضعاف الـذي ذهبـا *** لا الجوع دهرٌ ولا كلّ الفصول صبا!!
وحيث لم تكن (سلوى) من أهل الدنيا.. فقد فارقت الحياة بعد إجراء العملية!!
غادرت الدنيا، بصراعاتها، وآلامها، وقلقها..
تركتها لنا ورحلت.. بعد أن أودعت في كبدي وسماً من الألم لا ينمحي.. وفي قلبي جرحاً لا يندمل.. وفي عيني دمعة متجمدة!! حين كنت أراها بين أخواتها تتفجر نشاطاً وحركة، وتضج حيوية وإقبالاً على الدنيا بجمالها الأخّاذ وذكائها الوقّاد عدا عن تفوقها الدراسي وقدرتها على التعامل الرائع مع والدها ومعي ومع الناس.. حين كنت أرقبها وهي كذلك ينقبض قلبي.. ويراودني إحساس قديم لا يكذب!! بل يتجدد!!.. كنت أدرك أنها ليست الثامنة بل.. الزائرة!!
جاءت.. لتوقف تيار الألم، وتزرع الأمل، وتلون حياتي بالتفاؤل..
جاءت.. وكأن قدومها هبة من الله لوالدها لتستمر به الحياة.. وهو (الساخط) على مجيئها.
ورحلت.. لتجعلني أعاني لوحدي الشقاء والبؤس بدونها!!
جاءت (سلوى) لحكمة..
ورحلت لعبرة!!